في دماغنا عقلان
لدينا في الحقيقة والواقع عقلين عقل يفكر وعقل يشعر وينفعل . هاتان الطريقتان المختلفتان للمعرفة ، تتفاعلان لبناء حياتنا العقلية .
الأولى طريقة العقل المنطقي السببي وهي طريقة فهم ما ندركه تمام الإدراك والواضح وضوحا كاملا في وعينا ، وما يحتاج منا إلى التفكير فيه بعمق وتأمله . وهذا العقل يعمل بطريقة التسلسل وبمعالجة منحى واحد من الأحداث أي يدرس ويعالج سلسلة أفكار واحدة .
الثانية طريقة العقل الحوفي ، والعاطفي والانفعالي وهو مندفع وغير منطقي أحيانا . وهو يعمل بالتوازي ، أي بمعالجة عدة مدخلات حسية في نفس الوقت ، ويركز على واحد ويضع الباقي في الانتظار ريثما ينتهي منه .
وهناك تأثير متبادل بين الانفعال والتفكير . فقنوات الاتصال بين النتوء اللوزي " الأميجدالا " والتراكيب الحوفية المتصلة به وبين اللحاء " القشرة الجديدة " هي محور كل المعارك واتفاقات التعاون بين العقل والقلب "العاطفة " ، بين التفكير والشعور . هذه الدوائر العصبية تفسر أهمية الانفعال الحاسمة لفاعلية الفكر في اتخاذ قرارات حكيمة ، وإتاحة الفرصة للتفكير الواضح .
ويقترب هذا التقسيم الثنائي إلى عاطفي ومنطقي من التمييز الشائع ، بين العقل والقلب . فحين يعرف الإنسان بقلبه أن هذا الشيء صحيح ( وهذا بمثابة حدس ) ، فهذا أمر يختلف عن الاقتناع المنطقي السببي .
هذان العقلان – العاطفي والمنطقي – يقومان معاً في تناغم دقيق دائما بتضافر نظاميهما المختلفين بقيادة حياتنا . ذلك لأن هناك توازنا قائما بين العقل العاطفي والعقل المنطقي . العاطفة تغذي وتزود عمليات العقل المنطقي بالمعلومات ، بينما يعمل العقل المنطقي على تنقية مدخلات العقل العاطفي ، وأحيانا يعترض ، ومع ذلك يظل كل من العقلين ملكتين مستقلتين ، كل منهما يعكس عملية متميزة ، لكنهما مترابطتان في دوائر المخ العصبية .
وظيفة الانفعالات والعواطف
إن الوظيفة الأساسية للانفعالات والعواطف هي رفع جاهزية وقدرة الفعل والاستجابة التي تعتبر مناسبة وفعالة في مواجهة ما يتعرض له الكائن الحي ، وهي موجودة فقط لدى الحيوانات الراقية ، فهناك انفعالات أساسية نشترك بها مع الثدييات الراقية و الرأسيات، وهي انفعال الغضب والخوف والحب…..، وهي انفعالات أساسية قديمة لدينا ، وقد نشأت لدينا نتيجة حياتنا الاجتماعية انفعالات وعواطف جديدة وهي خاصة بنا ، فهي تكونت نتيجة العلاقات الاجتماعية و الحضارة والثقافة والعقائد…، فقد نشأت وتطورت أنواع كثيرة من الانفعالات والعواطف نتيجة لذلك.
والانفعالات لدينا دوماً تكون مترافقة مع أحاسيس خاصة بها . وهناك انفعالات إخبارية مثل الدهشة والتعجب والترقب والضحك . وهناك انفعالات مثل الحب والحنان والصداقة، والزهو، الغيرة، الحسد ، والكراهية…..، وكل هذه الانفعالات ترافقها أحاسيس معينة خاصة بكل منها.
وأحاسيس الانفعالات لدينا لا تنتج عن واردات أجهزة الحواس فقط ، فهي تنتج بعد حدوث تفاعلات وعمليات في الدماغ والذاكرة بشكل خاص ، بالإضافة إلى عمل وتأثيرات الغدد الصم ، فالغضب لا يحدث لدينا إلا بعد معالجة فكرية ، والتي تتأثر بالذاكرة وما تم تعلمه ، وهناك تأثير متبادل بين الدماغ والغدد الصم ، ويمكن التحكم في إحداث الانفعالات باستعمال تأثيرات كيميائية وفسيولوجية .
أما الضحك والاندهاش وبعض الانفعالات المشابهة فآلية حدوثها تعتمد بشكل أساسي على عمل الدماغ ويكون تأثير مستقبلات الحواس غير أساسي ، لذلك هي خاصة بالإنسان وبعض الرأسيات فقط . والأحاسيس الناتجة عن انفعال رعشة الحب تحدث بمشاركة تأثيرات دماغية مع تأثيرات انفعالية مع تأثيرات المستقبلات الحسية.
وهناك الأحاسيس الناتجة عن انفعالات وعواطف النصر أو الفوز والنجاح ، أو الهزيمة والفشل ، وغيرها وهي تشبه في بعض النواحي انفعال الضحك بأنها تعتمد بشكل أساسي على معالجة ما هو مخزن في الذاكرة .
وهناك الكثير من الانفعالات والعواطف المتطورة الأخرى التي تكونت لدى البشر نتيجة الحضارة والثقافة وهي ليست عامة بين البشر ، فهي لا زالت في طور التشكل والتطور والانتشار .
و يبقى الضحك انفعالاً مميزاً وهو ليس آخر الانفعالات التي نشأت لدى الإنسان ، وهناك علاقة بين انفعال الضحك والتعجب والمفاجأة والتوقع والتناقض ، فالضحك يحدث نتيجة المعالجة الفكرية للحوادث والأفكار والتناقضات…، فالغباء والأخطاء والتناقضات الواضحة أو المستورة قليلاً والمبالغات … هي من عوامل حدوث الضحك ، وإن آلية حدوث الضحك تعتمد على:
1- التناقض أو سير الأحداث بطريقة غريبة وغير متوقعة ، أو بشكل عكسي
2- المفاجأة بحدوث غير المتوقع ، أو حدوث المدهش ، أو ظهور الغباء مع ادعاء الذكاء، أو أدعاء القوة بينما هناك الضعف أو العكس.
3- المبالغة، يا له من غبي جداً- يا له من ذكي جداً يا له من ماكر جداً…….
4- تفريغ المشاعر العدائية ، أو الجنسية … والمطلوب إخفاؤها أو كبتها .
كما ذكرنا إن كافة الانفعالات والعواطف لدينا ، لها دور و وظيفة فسيولوجية وعصبية ونفسية ، فالضحك وظيفته الظاهرة هي الشعور بالغبطة والسعادة، ولكن له دور و وظيفة أعمق من ذلك وهي غير ظاهرة فانفعال الضحك نشأ أخر الانفعالات لدى الرأسيات الراقية فهو موجود بشكل محدود لدى الشمبانزي والأورانج أوتان .
إن الغضب ، والحقد ، والإحباط ، و الكآبة ، والرعب ، والقلق ،….. وكافة الانفعالات المؤلمة والمجهدة للجسم وللجهاز العصبي ، وخاصة دارات القلق والتردد والندم والوسوسة والتي تعمل باستمرار تستهلك الطاقات العصبية بكميات كبيرة ، بالإضافة إلى أنها تؤدي لجعل الجسم والدماغ يفرز الكثير من المواد الكيميائية العصبية والهورمونات التي تجهد العقل والجسم بدون داع في أغلب الأحيان .
إن كل هذا يمكن أن يخفف أو تتم السيطرة عليه ، وذلك بقطع أو إيقاف هذه الدارات العاملة ، بواسطة الموسيقى والأغاني الجميلة وبواسطة النكتة والمزاح بشكل خاص ، ويكون تأثيرهم فعالاً وسريعاً في أغلب الأحيان، إلا إذا كانت تلك الدارات قوية جداً فعندها يصعب تقبل الموسيقى أو المزاح والتنكيت.
التأثير المتبادل بين المزاج والتفكير
لقد لوحظ وجود علاقة بين التفكير والتذكر والأحاسيس والانفعالات من جهة والمزاج من جهة أخرى - ويقصد بالمزاج الوضع الكيميائي والكهربائي للدماغ- ، فعندما تكون فسيولوجيا الدماغ - وهي تتأثر بحوالي مئة مادة وغالبيتها ينتجه الدماغ أثناء عمله والباقي يصل إليه عن طريق الدم- في وضع معين تؤثر على التفكير والأحاسيس بشكل مختلف عنه فيما لو كانت في وضع أخر . وفلم شارلي شابلن مع السكير الغني مثالاً على ذلك: فالرجل الغني يتعرف على شارلي و يكون صديقه عندما يكون ثملاً، وعندما يصحو لا يتذكره ولا يتعرف عليه.
وقد أظهرت التجارب على الفئران أنها تتعلم الجري بالمتاهة عندما يكون في دماغها مواداً كيميائية معينة وتفشل في الجري عندما تختلف كيمياء دماغها عن وضعها أثناء التعلم، وقد تم جعل فأر يتعلم الجري يساراً عندما يكون دماغه معالجاً بمادة معينة، ويجري يميناً عندما يكون دماغه معالجاً بمادة أخرى.
إن للوضع الفسيولوجي للدماغ علاقة أساسية بآليات المعالجة أو التفكير والتذكر ، والاستجابات العصبية والانفعالية ، فعمل الدماغ العصبي الكهربائي يتم التحكم به بالمواد الكيميائية والتي يتم إنتاجها أثناء عمله، وكذلك نتيجة تفاعله مع باقي الجسم وخاصةً الغدد الصم. فهناك تأثير قوي وواسع للمزاج على عمل الدماغ سواء كان تفكيراً أو تذكراً أو توليد استجابة -أفعال أو أحاسيس- .
وبما أن الفرح أو الحزن أو الغضب أو الخوف أو الضحك وكافة الانفعالات تؤدي إلى إفراز مواد كيميائية تؤثر في عمل الدماغ ، فتجعل القياسات والتقييمات والأحكام تناسب أوضاع الانفعالات، فإن هذا يجعل عمل الدماغ يتكيف -أو يتلون - ليناسب تلك الانفعالات والأوضاع ، وبالتالي تتغير النتائج وتنحرف بشكل كبير.
وبناء على ذلك يمكننا التحكم بتقييماتنا وأحكامنا واستجاباتنا إذا غيرنا انفعالاتنا من الحزن إلى الفرح أو من الإحباط إلى الضحك ، أو من الخوف إلى الشجاعة،……الخ .
والإنسان أثناء تطوره استخدم- طبعاً دون وعي منه- هذه الخصائص بشكل كبير، فأخذ يضحك في أو ضاع خاسرة لكي يحول دون إفراز المواد التي تجعل مزاجه سيئاً ، لأن الضحك يؤدي إلى جعل المزاج جيداً ، فهو- أي المزاج الجيد واللذة والسعادة- كان ينتج بشكل أساسي عند الفوز والنجاح والنصر، فعندما يضحك الإنسان على خسارته أو فشله - شر البلية ما يضحك – كانت تلك استجابة فعالة في التعامل مع الأوضاع السيئة الخاسرة، فإنه بذلك يحول فشله إلى نصر ولو بشكل كاذب لتلافي النتائج المزاجية السيئة الناتجة عن الفشل أو الخسارة ، فالنكات تزدهر في الأوضاع السيئة والصعبة لما تحقق من فاعلية في التعامل مع هذه الأوضاع.
فالمزاح والفكاهة والتنكيت لهم تأثير فسيولوجي هام وفعال في رفع طاقات ومعنويات الفرد وزيادة قدرته على امتصاص تأثير الصدمات والتوترات الانفعالية الشديدة، فالمزاح يجعل تهديدات الذات من قبل الآخرين ضعيفة التأثير، ويمكن التعامل معها بسهولة لأنها لا تحدث انفعالات قوية تستدعي استنفاراً كبيراً لقدرات الجسم والجهاز العصبي والتي ليس هناك داع لها وتعيق التصرف، ولأن أغلب هذه التهديدات شكلية ، وحتى لو كانت هذه التهديدات جدية ، فالتعامل معها بروية وهدوء وعدم انفعال زائد وبمعنويات عالية أفضل وأجدى .
فالمزاح والفكاهة ضروريان بشكل خاص للأفراد شديدي الانفعال ، فدور المزاح كبير في خفض التوترات والانفعالات الشديدة ، وكلما استخدم الشخص الانفعالي المزاح والفكاهة مبكراً في حياته كان ذلك أفضل له في تحقيق التكيف والتعامل المناسب مع الآخرين ، والكثير من الناس انتبهوا لميزات الفكاهة والمزاح واستخدموها وحققوا الكثير من الفوائد.
إن التحول من المرح والسعادة إلى الغضب أو الحزن أو الخوف، أو التحول من المزاج الجيد إلى المزاج السيئ يمكن أن يحدث بسرعة ولكن العكس صعب الحدوث ، فنحن لن نستطيع إضحاك إنسان فقد إبنه أو حلت به كارثة كبيرة، ولكن نستطيع جعل إنسان في قمة السعادة يتحول إلى الغضب أو الخوف أو الحزن بوضعه في ما يوجب ذلك.
فعندما يحدث الغضب أو الخوف أو الحزن تنتج وتفرز المواد الهرمونية والعصبية التي تنتج المزاج المرافق له، وهذه المواد لا تزول بسرعة لذلك تبقى تأثيراتها فترة من الزمن ، وهذا الزمن يختلف من شخص إلى آخر، وكلما كان طول هذا الزمن مناسباً للأوضاع كان أفضل للتكيف معها. فالاستنفار لمواجهة الأوضاع الخطرة أو الصعبة يجب أن يكون سريعاً، أما فك أو إلغاء هذا الاستنفار فليس هناك ضرورة للإسراع به.